فصل: تفسير الآيات (17- 26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية}
قيلَ: هِلْ بمَعْنى قَدْ كمَا في قوله تعالى: {هَلْ أتى على الإنسان} الآيةَ، قال قُطْربٌ: أيْ قد جاءكَ يا محمدُ {حديث الغاشية}. وليسَ بذاكَ بلْ هو استفهامٌ أُريدَ به التعجيبُ ممَّا في حيزِه والتشويقُ إلى استماعِه والإشعارُ بأنَّه من الأحاديثِ البديعةِ التي حقُّها أنْ يتناقلَها الرواةُ ويتنافسُ عليها الوعاةُ مِنْ كلِّ حاضرٍ وبادٍ. و{الغاشية} الداهيةُ الشديدةُ التي تغشَى الناسَ بشدائدِها وتكتنفُهم بأهوالِها وهيَ القيامةُ من قوله تعالى: {يوم يغشاهم العذاب} الخ، وقيلَ: هيَ النارُ من قوله تعالى: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} وقوله تعالى: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} والأولُ هو الحقُّ فإنَّ ما سيُروى من حديثها ليسَ مختصاً بالنَّارِ وأهلِها بلْ ناطقٌ بأحوال أهلِ الجنةِ أيضًا. وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يومئِذٍ خاشعة} إلى قوله تعالى: {مبثوثة} استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤالٍ من الاستفهام التشويقيِّ كأنَّه قيلَ من جهتِه عليه الصَّلاةُ والسلام: ما أتانِي حديثها، فما هو؟ فقيلَ: {وجوهٌ يومئذٍ}، أيْ يوم إذْ غشيتْ ذليلةٌ، قال ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا: لم يكنْ أتاهُ عليه الصَّلاة والسَّلامُ حديثها فأخبرَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهَا فقال: {وجوهٌ} الخ، فـ: {وجوهٌ} مبتدأٌ ولا بأسَ بتنكيرِها لأنَّها في موقعِ التنويعِ، و{خاشعة} خبرُهُ. وقوله تعالى: {عاملة ناصبة} خبرانِ آخرانِ لـ: {وجوهٌ} إذِ المرادُ بهَا أصحابُها أي تعملُ أعمالاً شاقةً تتعبُ فيها وهيَ جرُّ السلاسلِ والأغلالِ والخوضُ في النَّارِ خوضَ الإبل في الوحلِ والصعودُ والهبوطُ في تلالِ النارِ ووهادِها، وقيلَ: عملتْ في الدنيا أعمالَ السوءِ والتذتْ بها فهيَ يومئذٍ في نصب منها، وقيلَ: عملتْ ونصبت في أعمالِ لا تُجدي عليها في الآخرةِ. وقوله تعالى: {تصلى} أي تدخلُ {نَاراً حامية} أي متناهيةً في الحرِّ، خبرٌ آخرُ لـ: {وجوهٌ}، وقيلَ: هو الخبرُ وما قبلَهُ صفاتٌ لـ: {وجوهٌ}، وقد مرَّ غيرَ مرةٍ أن الصفةَ حقَّها أن تكونَ معلومة الانتسابِ إلى الموصوفِ عندَ السامعِ قبلَ جعلِها صفةً له ولا ريبَ في أنَّ صليَ النارِ وما قبلَهُ من الخشوعِ والعملِ والنصب أمورٌ متساويةٌ في الانتسابِ إلى الوجوهِ معرفةً وجهالةً فجعلُ بعضِها عُنواناً للموضوعِ قيداً مفروغاً عنه غيرَ مقصودِ الإفادةِ وبعضِها مناطاً للإفادةِ تحكُّمٌ بحتٌ ويجوزُ أنْ يكونَ هذا وما بعدَهُ من الجملتينِ استئنافاً مبيناً لتفاصيلِ أحوالِها.
{تسقى مِنْ عين ءآنية} أي متناهيةٍ في الحرِّ كما في قوله تعالى: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ أن}، {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضريع} بيانٌ لطعامهم إثرَ بيانِ شرابِهم، والضريع يبيسُ الشبرقِ وهو شوكٌ ترعاهُ الإبل ما دامَ رطباً وإذا يبسَ تحامتْهُ وهو سمٌّ قاتلٌ، وقيلَ: هي شجرةٌ ناريةٌ تشبهُ الضريع وقال ابنُ كيسانٍ: هو طعامٌ يُصرعونَ عندَهُ ويذلُّونَ ويتضرعونَ إلى الله تعالى طلباً للخلاصِ منه فسمِّيَ بذلكَ وهذا طعامٌ لبعضِ أهلِ النارِ، والزقومُ والغسلينُ لآخرينِ {لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جوع} أي ليسَ من شأنِه الإسمانُ والإشباعُ كما هو شأنُ طعامِ الدنيا وإنما هُو شيءٌ يضطرونَ إلى أكلِه من غيرِ أنْ يكونَ له دفعٌ لضرورتِهم لكنْ لا على أنَّ لهم استعداداً للشبعِ والسمنِ إلا أنَّه لا يفيدُهم شيئاً منهمَا بلْ على أنَّه لا استعدادَ من جهتِهم ولا إفادةَ من جهةِ طعامهم، وتحقيقُ ذلكَ أنَّ جوعهُم وعطشَهُم ليسا من قبيلِ ما هُو المعهودُ منهما في هذه النشأةِ من حالةٍ عارضةٍ للإنسانِ عندَ استدعاءِ الطبيعةِ لبدلِ ما يتحللُ من البدنِ مشوقةً له إلى المطعومِ والمشروبِ بحيثُ يلتذُّ بهَا عندَ الأكلِ والشربِ ويستغنِي بهمَا عن غيرِهما عندَ استقرارهما في المعدةِ ويستفيدُ منهما قوةً وسمناً عند انهضامِهما بلْ جوعهم عبارةٌ عن اضطرارِهم عند اضطرامِ النارِ في أحشائِهم إلى إدخالِ شيءٍ كثيفٍ يملؤُها ويُخرجُ ما فيها من اللهبِ وأما أن يكونَ لهم شوقٌ إلى مطعومٍ ما أو التذاذ به عندَ الأكلِ واستغناءٌ به عن الغير أو استفادةُ قوةٍ فهيهاتَ وكذا عطشُهم عبارةٌ عن اضطرارهم عند أكلِ الضريع والتهابِه في بطونِهم إلى شيءٍ مائعٍ باردٍ يطفئُه من غيرِ أنْ يكونَ لهم التذاذ بشربه أو استفادةُ قوةٍ به في الجملة وهو المعنى بما رُويَ أنه تعالى يسلطُ عليهم الجوع بحيثُ يَضطرهُم إلى أكلِ الضريع فإذا أكلُوه يسلطُ عليهم العطشَ فيضطهُم إلى شرب الحميمِ فيشوِي وجوهَهُم ويقطعُ أمعاءَهُم. وتنكيرُ الجوع للتحقيرِ أيْ لا يُغني من جوع ما، وتأخيرُ نَفي الإغناءِ منْهُ لمراعاةِ الفواصلِ والتوسلِ به إلى التصريحِ بنفي كلا الأمرينِ إذ لو قُدمَ لما احتيجَ إلى ذكر نفي الإسمانِ ضرورة استلزامِ نفي الإغناءِ عن الجوع إيَّاه بخلاف العكسِ ولذلك كررَ لاَ لتأكيدِ النَّفي. وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يومئِذٍ ناعمة} شروعٌ في روايةِ حديث أهلِ الجنةِ، وتقديمُ حكايةِ حالِ أهلِ النارِ لأنَّه أدخلُ في تهويلِ الغاشية وتفخيمِ حديثها، ولأنَّ حكايةَ حسنِ حالِ أهلِ الجنةِ بعدَ حكايةِ سُوءِ حالِ أهلِ النارِ مما يزيدُ المحكيَّ حُسناً وبهجةً والكلامُ في إعرابِ الجملة كالذي مرَّ في نظيرتِها، وإنما لم تُعطف عليها إيذاناً بكمالِ تباينِ مضمونَيهِما. ومعنى {ناعمة} ذاتُ بهجةٍ وحسنٍ، كقوله تعالى: {تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أو متنعمةٌ.
{لِّسَعْيِهَا راضية} أي لعملها الذي عملتْهُ في الدنيا حيثُ شاهدتْ ثمرتَهُ {فِى جَنَّةٍ عالية} مرتفعةِ المحلِّ أو عليةِ المقدارِ.
{لاَ تسمع} أي أنتَ أو الوجوهُ {فِيهَا لاغية} لغواً أو كلمةً ذاتَ لغوٍ أو نفساً تلغُو فإنَّ كلامَ أهلِ الجنةِ كلَّه أذكارٌ وحكمٌ. وقرئ {لا تسمع} على البناءِ للمفعول بالياءِ والتاءِ ورفعِ {لاغية} {فِيهَا عين جارية} أيْ عيونٌ كثيرةٌ تجرِي مياهُها، كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ}، {فِيهَا سُرُرٌ مرفوعة} رفيعةُ السمكِ أو المقدارِ {وَأَكْوابٍ} جمعُ كوبٍ وهو إناءٌ لا عُروةَ لهُ {موضوعة} أي بينَ أيديهِم {وَنَمَارِقُ} وسائدُ جمعُ نمرقة بالفتحِ والضمِّ {مصفوفة} بعضُها إلى بعضٍ {وَزَرَابِيُّ} أي بسطٌ فاخرةٌ جمعُ زُرْبيَّةٌ {مبثوثة} أيْ مبسوطةٌ. اهـ.

.تفسير الآيات (17- 26):

قوله تعالى: {أَفَلَا ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت (17) وَإِلَى السماء كَيْفَ رفعت (18) وَإِلَى الجبال كَيْفَ نصبت (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سطحت (20) فذكر إِنَّمَا أَنْتَ مذكر (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمصيطر (22) إِلَّا مَنْ تولى وكفر (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعذاب الأكبر (24) إِنَّ إِلَيْنَا إيابهم (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم (26)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أنهى سبحانه ما أراد من تصوير تلك الدار على ما يليق بهذه السور القصار، وكانوا ينكرون غاية الإنكار فوبخهم بما يعصمهم من الزيغ عن العقائد الحقة في استفهام إنكاري مذكراً لهم بأمورهم في غاية الوضوح في نفسها، لأن نزول هذه السور كان في أول الأمر قبل أن يتمرنوا على المعارف تدل على قدرته على البعث وعلى قدرته على ما ذكر ما هذه الأمور التي أودعها الجنان للذة الإنسان، وذلك لما في هذه الأمور التي ذكر بها سبحانه من عجائب الصنع مع تفاوته في جعل بعضها ذا اختيار في الخفض والرفع، وبعضها على كيفية واحدة لا قدرة له على الانفكاك عنها من علو أو سفول مع التمهد أو التوعر، فقال مسبباً عما مضى من الإخبار عن أحوال الفريقين في الآخرة وعن قدرته على ما ذكر: {أفلا ينظرون} أي المنكرون من هذه الأمة لقدرته سبحانه وتعالى على الجنة وما ذكر فيها والنار وما ذكر فيها- نظر اعتبار.
ولما كان لهم من ملابسة الإبل ما ليس لهم من ملابسة غيرها، وكانت فردة في المخلوقات لا شبيه لها مع ما لها من كثرة المنافع كما قال الحسن رحمه الله تعالى- مع أكلها لكل مرعى واجتزائها بأيسر شيء لاسيما في الماء وطول صبرها عنه مع عظم خلقها وكبر جرمها وشدة قوتها، فكانت أدل على تمام القدرة والفعل بالاختيار، قال منبهاً بذكرها على التدبر في الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً بعد ما أشار إلى دلالتها على البعث في البروج بذكر ثمود بعد أن صرح به في سورة سبحانه كما مضى بيانه في الموضعين ويأتي إن شاء الله تعالى في الفجر والشمس، وأوضح التعبير عنها هنا بما يدل على الخلطة المميلة المحيلة المناسبة لمعنى {الغاشية} بخلاف التعبير في سورة النحل بالأنعام لأنها سورة النعم {إلى الإبل} ونبه على أن عجيب خلقها مما ينبغي أن تتوفر الدواعي على الاستفهام والسؤال عنه بأداة الاستفهام، فقال بانياً للمفعول إشارة إلى أن الدال هو التأمل في مجرد خلقها الدال على إحاطة علم الله وعظيم إحسانه وقدرته تعالى وفعله بالاختيار وحسن تدبيره حيث خلقها لجر الأثقال إلى البلاد النائية فجعلها عظيمة باركة للحمل ناهضة به من غير معين، منقادة لمن اقتادها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار الثقال ترعى كل نبات وتحتمل العطش إلى عشر فصاعداً ليتأتى بها قطع المفاوز، فهي سفن البر مع ما لها من منافع أخر، قال البيضاوي: ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً ولأنها أعجب ما عند العرب- انتهى.
وتنفعل للبسط وتجد في سيرها فتتأثر بالصوت الحسن جدًّا، ومن عجائبها أنها لا تكذب أصلاً فإنها لا تبرك عجزاً عن الحمل- إلا وليس فيها من القوى شيء، وليس فيها ما تعم كراهته إلا كثرة رغائها فلعله سبحانه نفى عن الجنة اللغو لذلك، ولعله مثل العين الجارية وقربها بدرها، والسرر المرفوعة التي حكى أنها تنخفض حتى يتمكن المنتفع بها من ظهورها ثم ترتفع به بالسماء في علوها مع ما يعهدون من بروك الإبل للحمل والركوب ثم ارتفاعها لتمام الانتفاع، وقرب نصب الأكواب بسنامها والنمارق ببقيتها حال بروكها، ثم فصل ما دلت عليه الإبل من الأكواب بالجبال التي لا ترتقى مثل جبل السد، والنمارق بالتي ترتقى، وبسط الزرابي بمهد الأرض.
قال أبو حيان رحمه الله تعالى: و{كيف} سؤال عن حال والعامل فيه {خلقت} وإذا علق الفعل عما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته.
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذا المخلوق المفرد الذي هو أدل ما يكون على هذا القول بالطبيعة، أتبعه ذكر السماء ليتذكر السامع ذلك فيباعد من يقول به فقال: {وإلى السماء} أي التي هي من جملة مخلوقاتنا {كيف رفعت} أي حصل بأيسر أمر رفعها من الذي خلقها بلا عمد على ما لها من السعة والكبر والثقل والإحكام وما فيها من جبال الكواكب والغرائب والعجائب، فذلك دال على القدرة التامة التي لا يشارك تعالى فيها أحد قل ولا جل على إيجاد الجنة العالية وعلى رفع السرر فيها لأنه دل على الفعل بالاختيار ونفي حكم الطبيعة حكماً وحتماً، وذلك دال على كمال قدرته تعالى على كل شيء.
ولما ذكر العالي من الحيوان الملابس للإنسان والعالي من الأكوان، أتبعه أعلى الأرض فقال تعالى: {وإلى الجبال} أي الشامخة وهي أشد الأرض {كيف نصبت} أي كان نصبها من ناصبها عالية جدًّا على بقية الأرض بلا موجب فيها لذلك من طبيعة ولا غيرها بل بفعل الفاعل المختار فهي راسخة لا تميل، فوضعها كذلك على ما فيها من المنافع من المياه الجارية والأشجار المختلفة أعجب من وضع الأكواب والنمارق المزينة، وبها مع ذلك ثبتت الأرض وحفظت من الميد، واعتدل أمر الكواكب في تقدير الليل والنهار باعتدال البلاد بالطلق بإعلاء بعضها قبل بعض حتى كانت المطالع والمغارب على ترتيب مطرد ونظام محكم غير منخرم تقدر به الأزمان والفصول والسنون والأيام والشهور- إلى غير ذلك من الأمور، ولا يكون ذلك لها إلا بقاهر قادر مختار لا شريك له.
ولما كان الخفض لا يكون إلا بخافض قاهر كما أن الرفع كذلك قال تعالى: {وإلى الأرض} أي مع سعتها {كيف سطحت} أي اتفق بسطها من باسطها حتى صارت مهاداً موضوعاً يمشي عليه بغاية السهولة، والقدرة على جعلها كذلك على ما هي فيه من الزينة بناضر النبات وغير ذلك من الاختلافات دالة على الفعل بالاختيار، وليست بدون القدرة على بث الزرابي في الجنة على اختلاف أشكالها وصورها وألوانها.
ولما دل ما ذكر من عجائب صنعه في أنواع المخلوقات من البسائط والمركبات العلويات والسفليات على كمال قدرته على كل شيء، فدل على كمال قدرته- على البعث وعلى كل ما ذكر أنه يفعله في الجنة والنار، وكان الحث على النظر في هذه الأشياء باستفهام إنكاري، وكان ذلك مفيداً لأنتفاء النظر، قال سبحانه مسبباً عنه: {فذكر} كل من يرجى تذكره وانتفاعه بالتذكير يا أشرف خلقنا بما في غرائزهم وفطرهم من العلم الأولى بما في هذه الأشياء وأمثالها مما يدل على صحة ما نزلنا عليك ليدلهم على كمال قدرة الذي بعثك فينقادوا لك أتم انقياد لاسيما في اعتقاد حقية البعث، ولا يهمنك كونهم لا ينظرون ولا يتطرفون، ولعل التذكير يوصل المتذكر إذا أقبل عليه بحسن رغبة إلى أن يعرف أن الإبل تشبه الأنفس المطمئنة الذلولة المطيعة المناقدة، والسماء تشبه الأرواح القدسية النورآنية، والجبال تشبه العقول والمعارف الثابتة الراسخة، والأرض تشبه البدن المشتمل على الأعضاء والأركان.
ولما كانت هذه السورة مكية من أوائل ما أنزل، وكان مأموراً إذ ذاك بالصفح قال: {إنما أنت مذكر} أي لا مقاتل قاهر قاسر لهم على التذكر والرجوع، فلا عليك إن لم ينظروا ولم يتذكروا لأنه ما عليك إلا البلاغ، ولذلك قال: {لست} وأشار إلى القهر بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي خاصة {بمصيطر} أي بمتسلط، وأما غيرهم فسنسلطك عليهم عن قريب.
وقرأها الكسائي بالسين على الأصل.
ولما نفى عنهم تسلط الدنيا، وكان التقدير: فمن أقبل وآمن فإن الله ينعمه النعيم الأكبر، قال مستدركاً قسيمهم في صورة الاستثناء: {إلا} أي لكن {من تولى} أي كلف نفسه المطمئنة وفطرته الأولى المستقيمة للإعراض {وكفر} أي وأصر على كفره، وأجاب الشرط بقوله مسبباً عنه: {فيعذبه} أشد العذاب الذي لا يطيقه أصلب الحديد ولا أشد الجبال {الله} أي الملك الأعظم بسبب تكبره على الحق ومخالفته لأمرك المطاع ومرادك الذي كله الحسن الجميل، ولعله صوره وهو منقطع بصورة المتصل بالتعبير بأداته إشارة إلى أن العذاب من الله عذاب منه صلى الله عليه وسلم، لأن سببه تكذيبهم له.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما {ألا} بالفتح والتخفيف على أنها استفتاحية {العذاب الأكبر} يعني عذاب الآخرة، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً فيكون المعنى: أن من أصر على الكفر يسلطه الله عليه فيقتله فيعذبه الله في الدار الآخرة، ثم علل إخباره عنه عذابه في الآخرة بقوله مؤكداً لما لهم من التكذيب: {إن إلينا} أي خاصة بما لنا من العظمة والكبرياء {إيابهم} أي رجوعهم وإن أبوا بالموت ثم بالبعث ثم بالحشر.
ولما كان الحساب متأخراً عن ذلك كله، وعظيماً كماً وكيفاً، عظمه بأداة التراخي فقال: {ثم إن} أكده لإنكارهم، وأتى بأداة دالة على أنه كالواجب في أنه لابد منه فقال: {علينا} أي خاصة بما لنا من القدرة والتنزه عن نقص العبث والجور وكل نقص، لا على غيرنا، لأن غيرنا لا قدرة له فقد تقدمنا فيه بالوعود الصادقة، وأكدناها غاية التأكيد {حسابهم} أي يوم القيامة على النقير والقطمير، وغير ذلك من كل صغير وكبير، وذلك يكون في الغاشية يوم ينقسم الناس قسمين: في دار هوان، ودار أمان، فقد التف آخرها بأولها، وتعانق مفصلها بموصلها- والله الهادي للصواب وإليه المآب. اهـ.